ردٌّ على مقالة الكاتبة فاتن فاروق عبد المنعم “العقيدةُ الداهشيَّة.. دعوةٌ للكُفر” (الجزء الأَخير)
*ماجد مهدي
… لم أَعتَدْ أَن أُطيل في الردِّ على المقالات التي تتضمَّنُ مغالطاتٍ أَدبيَّة أَو فكريَّة أَو افتراءَاتٍ على رجال الأَدب والفكر. لكنَّني وجدتُ نفسي مُرغمًا، هذه المرَّة، على الإطالة، وذلك في معرض ردِّي على مقالة الكاتبة فاتن فاروق عبد المنعم “العقيدةُ الداهشيَّة.. دعوةٌ للكُفر”، التي نشرَتْها على موقع “الأَنطولوجيا” الأَدبيّ، يوم الإثنين الموافق السادس من مارس (آذار) ٢٠٢٣، والتي أَلصقَت فيها التُّهم الباطلة والنُّعوت المَعيبة، جُزافًا، بالدكتور داهش، أَحد أَبرز مُمثِّلي الأَدب الإنسانيّ في القرن العشرين، وبأَدبه وعقيدته الفكريَّة ومُريديه ومُحبِّيه. وقد استغرقَت تلك التُّهمُ والنُّعوت صفحاتٍ عدَّة، وبلغت حدًّا غير مسبوق في الاعتداء والتشهير والتكفير وتزوير الحقائق ثبَتَ معه بأَنَّ الكاتبة تضربُ عُرض الحائط بالمسؤوليَّة الأَدبيَّة المُلقاة على عاتقها، ولا تُلقي بالاً لأُصول النقد الذي تدَّعي القيام به! وهذا الإفراطُ في التجنِّي من جانبها اضطرَّني للردِّ على كلِّ أُضلولةٍ من أَضاليلها الظلاميَّة التي ساقتها في المقالة. وقد نَحَوْتُ فيه نَحْوًا مُغايرًا عن المعتاد، إذ جعلتُه أَقرب إلى المقالة الأَدبيَّة منه إلى الردّ بإضافة مقتطفاتٍ من أَدب الدكتور داهش وفكره تكونُ بمثابة الشواهد القاطعة التي تَدحَضُ زَيْف ادِّعاءَات الكاتبة، وتأْتي على كلِّ ما صاغَتْه يدُها السوداء وقلمُها المُصابُ بطاعون المُفتريات الدنيئة بحقِّه، وتَذَرَهُ قاعًا صَفْصَفًا، لا عينٌ ولا أَثَر!… وكان من الطبيعيّ أَن تطول تلك المقالة، نتيجةً لذلك، فتُصبحَ سلسلةً من المقالات الأَدبيَّة التي لا تقفُ عند حدِّ الردِّ على مُهاترات الكاتبة، بل تُقدِّم، أَيضًا، الحقيقة الساطعة عن شخص الدكتور داهش وأَدبه وفكره ومُريديه، في أَصدق صُورها!
* * *
… في استكمالٍ لما تضمَّنَته مقالاتي السابقة من ردودٍ على تخرُّصات تلك الكاتبة في مقالتها، انبريتُ للردّ على إحدى التُّهم التي أَلصقَتها بالداهشيِّين، والتي تُعدُّ من أَشدِّها ظلاميَّةً وظُلمًا. وقد قصدَتْ من خلالها الإيقاع بينهم وبين الشعوب العربيَّة التي ينتمي معظمُهم إليها، مُدَّعيةً بأَنَّهم “يسعَوْن إلى سيطرة اليهود على العالَم، وإلى إثبات الصلة القويَّة بين جلساتهم الروحيَّة والماسونيَّة…” ويقينًا أَنَّ كلامها هذا ما هو إلاَّ هُراءٌ بهُراء أُريدَت به فتنة، والفتنةُ نائمة لعنَ اللَّهُ مُوقظَها، بل هو شَقْشقَةُ لسان، الدافعُ إليه هو الكذِب الذي اعتادَت الكاتبة أَن تتمرَّغَ في حَمْأَته، والذي يُعميها عن رؤية الحقائق وإطلاق الأَحكام العادلة. فالذين يسعَون فعلاً إلى “سيطرة اليهود على العالَم”، والذين يدعمونَهم، معروفون للعالم كلِّه. ومع ذلك، لم تتورَّع الكاتبة عن إسقاط تلك التُّهمة الشيطانيَّة على الداهشيِّين، فقط لأَنَّ الفكر الداهشيّ يتعارضُ تمامًا مع مفاهيمها الدينيَّة والمذهبيَّة التكفيريَّة، المتقوقعة في أَحضان التعصُّب الأَعمى والحقد الأَسود. فالدكتور داهش والداهشيُّون لا شأن لهم في أُمور السيطرة والظُّلم والطُّغيان والحروب ومُعاداة الشعوب والأُمم وأَهل الأَديان حتَّى يسعَوا إلى تحقيق هَيْمَنة اليهود على العالم، وما ارتُهنوا يومًا لأَحدٍ غير اللَّه، كائنًا مَنْ كان، وما كانوا إلاَّ دُعاةَ حقٍّ وعدلٍ وإيمانٍ ووحدةٍ وإنسانيَّةٍ وسلام، يشهدُ لهم بذلك كتابُ “مذكِّرات دينار” الذي بسَط الدكتور داهش فيه رأيه في العدالة البشريَّة المُزيَّفة وكيفيَّة تحقيق السلام العالميّ، وموقفه من المظالم التي تُمارسُها الدول الكبرى بحقِّ الدول الضعيفة من أَجل السيطرة على شعوبها واستنزاف ثرواتها. وقد كان الأَجدى بالكاتبة أَن تقرأَ ذلك الكتاب قبل أَن تُطلق أَحكامها العبثيَّة الظالمة بحقِّهم.
ولو أَنَّ تلك الكاتبة قرأَت قصائد الشاعر حليم دمُّوس في العرب والعروبة واللغة العربيَّة في أَربعينيَّات القرن العشرين، وهو الذي يُعَدُّ من أَوائل الداهشيِّين في لبنان، لَخجلَت من نفسها على ما قالته بحقِّه، وبحقِّ إخوانه الداهشيِّين. فهذا الشاعرُ العربيُّ العُروبيُّ الفذّ الذي أُطلقَ عليه لقب “صادح القرآن”، وهو المسيحيُّ الأَصل والنشأَة، كان يعتبرُ العروبةَ قِبْلتَه، وبَني العروبة مُنْيتَه! هكذا قالها في قصيدته “حقيقةُ الإسلام”: “أَنا كيف سرتُ أَرى العُروبة قِبْلَتي/ وبَني العُروبةِ مُنْيتي ومَرامي/ إخوانُ قُرآنٍ بَشيرِ هدايةٍ/ ورِفاقُ إنجيلٍ رسُولِ سلامِ.” ولقد أَحبَّ حليم دمُّوس بلاد العرب وأَهلها الحُبَّ كلَّه، وغنَّى لغتها الجميلة في ٤٨ قصيدةٍ خصَّها بها، وتغنَّى بأَمجادها الزاهية، وأَلهبَ عزائم رجالها بقصيدته “تكلَّم السيف فاسكُتْ أَيُّها القلَمُ” التي أَلقاها في قلب المسجد الأُمويّ بدمشق، مُناشدًا إيَّاهم أَن يهبُّوا لنجدة “الأَقصى” و”الصَّخرة” و”القيامة”، وللذَّوْد عن حِمى القدس، فهزَّ بها مشاعر المُصلِّين الذين هتفوا مُردِّدين “اللَّه أَكبر! اللَّه أَكبر!” ففي تلك القصيدة المُجَلْجِلة، استحال الشاعرُ الإنسانيُّ الثائر كُبَّةً من لَهَبٍ مُستعر في وجه الغرب ومظالمه، وغدَتْ أَبياتُه سيوفًا ماضية تُذكِّرهم بأَمجاد العروبة وبُطولات العرب، مُنشدًا: “شَكوى إلى اللَّه ربِّ العرش نَرفعُها/ فالغربُ عن سَمْعِ شَكوانا بهِ صَمَمُ/ لا تَطلُبِ الحقَّ مِمَّن كان مُقتدِرًا/ إنَّ الحكيمَ إلى الهيْجاءِ يَحتَكمُ/ سِيروا إلى المسجدِ الأَقصى لساحتِه/ سَرى مُحمَّدُ ليلاً وهوَ يبتسمُ/ لبَّيْكَ يا مَهدَ عيسى في طهارتِهِ/ فمَهْدُ عيسى كبَيتِ اللَّه يُستَلَمُ/ وللعُروبةِ في أَرواحِنا ضَرَمٌ/ تَدْوي بنيرانِهِ الشُّطآنُ والأَكَمُ/ سيَعلمُ الناسُ طُرًّا أَنَّنا عَرَبٌ/ لا نَرتضي الذُّلَّ أَو يُودي بنا العَدَمُ!” فهل يُعقَلُ أَن ترمي تلك الكاتبةُ ذلك الشاعر وإخوانه بما رمَتْهم به من العمالة لليهود؟! وكيف لا تخجلُ من أَن تطعن في شرفهم ووفائهم لعُروبتهم، وهم مثالُ الوفاءِ والشرف، والعروبةُ الشمَّاء رمزُ عزَّتهم وإبائهم؟!
أَمَّا اتِّهامها للداهشيَّة بأَنَّها على صلةٍ قويَّة بالماسونيَّة، فجوابي عليه هو أَنَّه من نَسْج خيالها المريض. فالدكتور داهش لم يَدْعُ يومًا إلى الماسونيَّة أَو سواها. وإنَّني لأَعجبُ كيف تُطلقُ الكاتبة مثلَ هذه التُّهمة الباطلة بحقِّ مبادئه الفكريَّة قبل أَن تتحرَّى الحقيقة في شأنها. فهي، لو تحرَّتْها، لَعلمَت بأَنَّ يوسف الحاجّ، الأَديب اللبنانيَّ الكبير، وهو من أَوائل الذين تأَثَّروا عام ١٩٤٢ بفكر الدكتور داهش، كان قبل تعرُّفه به قد بلغَ الدرجة الـ٣٣ في الماسونيَّة؛ وهي أَعلى رُتبةٍ فيها أَهَّلَتْهُ لأَن يكون رئيسَ محفلٍ ماسونيّ. لكنَّه، بعد تعرُّفه إليه، واطِّلاعِه على مبادئه الروحيَّة، كفَرَ بالماسونيَّة، وأَلَّفَ ضدَّها كتابًا دعاه “هيكل سليمان أَو أَكاذيب الماسونيَّة”، ونشَرَه، فقرأَهُ القاصي والداني، وأَطنَبَت الصِّحافةُ في الكتابة عنه.
أَمَّا الأَمرُ المُضحكُ الذي أَتحفَتْنا به الكاتبة في مقالتها، فهو ما ذكَرتْهُ من أَنَّ “جميع العلماء المسلمين الكبار الذين كانوا من مؤيِّدي الدكتور داهش لم تتَّضح صورتُه لهم، ولم يعرفوا حقيقتَه، لأًنَّ المعلومة الكاملة عنه لم تَصلْهم”. وهذا دليلٌ آخر على أَنَّها مُغرقةٌ في التعصُّب الدينيّ والمذهبيّ. فلو كان أُولئك العلماءُ الكبار ينتمون إلى دينٍ آخر غير دينها لكانت نعَتَتْهم بالغباء، وأَعملَت قلمَها في سمعتهم، تجريحًا وإهانة. أَمَّا وأَنَّهم من كبار العلماء المسلمين، فلا بأس من أَن توجد مخرجًا مشرِّفًا لهم، كهذا المخرج، حفاظًا على كرامتهم؛ وهذا لعَمري ضَرْبٌ من ضُروب التعصُّب والاستهانة بعقول الآخرين. وإنَّني أَكتفي بأَن أَضع نُصْب عينَيْها، في هذا السياق، رسالةً بعثَ بها الشيخ أَحمد العجوز، أَحدُ أُولئك العلماء المسلمين، إلى الدكتور داهش، بواسطة الشاعر حليم دمُّوس، وذلك في ١٧ أَيَّار (مايو) ١٩٥١، لما فيها من حقائق تدحضُ ما ادَّعَته الكاتبة في هذا الشأن. ففي جانبٍ من تلك الرسالة التاريخيَّة الرائعة، العابقة بالصدق وجمال الأَدب، يُعبِّرُ الشيخ أَحمد العجوز عن نظرته إلى شخص الدكتور داهش، وخوارقه، ومبادئه، بأَجمل الكلمات وأَبهاها، مخاطبًا إيَّاه بالقول:
“حضرة الدكتور داهش بك المحترم/ تحيَّة طيِّبة خالصة من مُخلصٍ لك صادق أَزفُّ هذه التحيَّة الأَنيقة يَحوطُها الشوقُ العبير إلى الرجل الفذّ والروحيِّ النبيل الذي وقَف على نُقطة الصلة بين عالَم المادَّة الكثيف الذي يزخرُ بمُوبقات الحياة وفوضويَّات الغرور وهيجات الفتَن والشرور، وعالَم الروح اللطيف الذي تتجلَّى فيه أَسرارُ الخَفاءِ الغامضة ومكنُوناتُ السرِّ العجيب، وتَكشفُ عن حكمة اللَّه الواحد الأَحد، في خَلْقه وتكوينه، في تشريعه وتدبيره. فسُبحان اللَّه ربِّ العالَمين، لقد رأَيتُ منكَ من مُدهشات المشاهد التي لا يُنكرُها إلاَّ مُتكابرٌ مُعاند
قد تُنكرُ العَيْنُ ضوءَ الشمسِ مِنْ رَمَدٍ/ ويُنكرُ الفَمُ طَعمَ الماءِ مِنْ سَقَمِ
وأَخيرًا، أَبثُّكَ أَشواقي وتحيَّاتي. المُخلص أَحمد العجُوز”
وفي جانبٍ آخر من مقالتها، أَوردَت الكاتبة أَنَّ “اللعب بالمُسمَّيات لن يطمسَ حقيقة الداهشيَّة الداعية لعبادة الشيطان”، وأَنَّ الداهشيَّة تَعتبرُ “أَنَّ الجنَّة والنار حالةً عقليَّة يُجسِّمُها الفكر ويصنعُها الخيال”. والحقّ أَنَّها كانت تخبطُ خَبطَ عشواء في كلامها، ولم تقُدِّم دليلاً واحدًا على صحَّة ادِّعاءَاتها. ولو أَنَّها تصفَّحَت كتب الدكتور داهش الأَدبيَّة، على اختلاف موضوعاتها، لتبيَّن لها أَنَّ اسم اللَّه لا يغيبُ عنها، وأَنَّه يُذكَرُ فيها بالتعظيم والإجلال، والخضوع المُطلق لإرادته، وبالضراعة إليه، وبالتشوُّف إلى بلوغ جنَّاته السرمديَّة، في حين أَنَّ الشيطان يُذكَرُ فيها مُتقلِّبًا على الجمرات الخالدة في أَعمق أَعماق دركات جهنَّم المتَّقدة بالنيران الخالدة، ومُرفَقًا باللعنة الأَبديَّة، جزاءً وفاقًا له على ارتكاباته! فكتاب “إبتهالات خشُوعيَّة”، الذي ضمَّ معظم ابتهالات الدكتور داهش، هو، في مُجمله، قلبٌ ينبضُ بحبِّ اللَّه، وجبينٌ يُلامسُ تُراب الأَرض خضوعًا أَمامه، وفمٌ يضرعُ إليه ويُسبِّحُ بعظائمه، وفكرٌ يذوبُ شوقًا لبلوغ جنَّاته السرمديَّة الخالدة، وكلماتٌ حزينةٌ مُجنَّحة تستحيلُ بخورًا مُتصاعدًا أَمام عرشه الأَزليّ! ففي ابتهالٍ له من الكتاب، بعنوان “ضراعة”، يُعبِّرُ الدكتور داهش عن حقيقة إيمانه بالله، وعبادته له، وعن شوقه لبلوغ جنَّة النعيم المُقيم، قائلاً: “أَيُّها الخالقُ المُهيمِن!/ يا مَن تتغنَّى الأَفلاكُ بقُدرتكَ اللانهائيَّة!/ يا مَن تَخُرُّ الجبالُ تحت موطئ قدمَيك!/ يا مَن يَهلعُ الخِضمُّ ويَخشَعُ أَمام جبَروتكَ الإلهيّ!/ يا مَن ترتَجفُ أَوصالُ المجرَّاتِ أَمام بهائكَ المُذهِل!/ أَيُّها العليُّ الذي إرادتُهُ لا تُرَدّ!/ أَقِلْني، يا إلهي، من عَثَراتي،/ وحوِّلْ لأَفراحٍ حَسَراتي،/ وخُذْ بيَدي، وسَدِّدْ خُطَواتي./ إنَّ رحمتَكَ، أَيُّها الخالقُ، لانهائيَّة،/ فدَعْني، يا مُوجِدي، عند انتهاءِ أَيَّامي،/ أَتفيَّأُ ظلالَ جنَّة الخُلدِ الفردوسيَّة./”
هذا غَيْضٌ من فَيْض كتابات الدكتور داهش المُبلَّلة بأَنداءِ الروح العلويّ والإيمان والفضيلة والخير وحبِّ اللَّه. وهو يدينُ الكاتبة بالتقصير في الاطِّلاع على الحقائق، وبالظلاميَّة والظُّلم في إصدار التُّهم والأَحكام، وبالاعتداء على الحرِّيَّات والكرامات، وبالتعصُّب الدينيّ الذي يقودُ إلى التكفير والفِتَنة واستباحة الدماءِ البريئة. فكيف يُمكنُها أَن تُوفِّق بين ما ادَّعَتْه زُورًا بأَنَّ الدكتور داهش لا يؤمنُ بالجنَّة والنار كحقيقةٍ ملموسة، وبين قطعته الأَدبيَّة الوجدانيَّة “في جنَّة الخُلد” التي افتلذَها من عظيم إيمانه بتلك الجنَّة، مُذْ كان في الثالثة والثلاثين من عُمره، والتي ضمَّنها كتابَه “جحيمُ الذكريات”، قائلاً فيها: “حلِّقي، يا روحي، عاليًا، وجُوبي الآفاقَ العُلويَّة!/ وابلُغي، يا روحي، هناك حيثُ الفراديسُ الإلهيَّة!/ وتفيَّئي، يا روحي، ظلال أَشجارها الغَيْناءِ الهَنيَّة!/ واجْني، يا مُنى نفسي، أَشهى ثمارها الجَنيَّة!/ واهْنئي بسماعِ أَغاريدِ أَطيارها الشجيَّة/ وخُوضي نهرَها اللُجَيْنيَّ الصافي بزُرقته الفيروزيَّة!/ وانظُري إلى الحواريِّ الراقصاتِ بحُلَلهنَّ الأُرجُوانيَّة!/ وتأَمَّلي في وجوههنَّ النَّضرة وشفاههنَّ القرمزيَّة!/ وسبِّحي اللَّهَ، يا روحي المُضيئة في جنَّاتكِ اللانهائيَّة!/ واهزُجي مع الملائكةِ الأَطهار بأَهازيجِكِ القُدسيَّة!/ وافْنَيْ في حُبِّ الله وسماواتِه النقيَّة!/ واخلُدي في ظلِّ محبَّتِه، يا روحي القويَّة! ولْتَمْضِ الآجالُ والأَجيالُ السحيقة وأَنتِ غارقةٌ في تأَمُّلاتكِ السماويَّة!”.. ويقينًا أَنَّ هذه القطعة كفيلةٌ وحدها بأَن تُثبت بُطلان ادِّعاءَات تلك الكاتبة حول كيفيَّة إيمان الدكتور داهش بالجنَّة! وقد كان عليها أَن تقرأَ كتاب “جحيم الدكتور داهش”، وكتاب “النعيم”، وكلاهما من مؤلَّفات الدكتور داهش، لتُجنِّب نفسها الانحراف عن الطريق السويّ في الأَحكام. فكتابُ “جحيم الدكتور داهش” النثريّ يُعدُّ تُحفةً أَدبيَّةً فنِّيَّةً قلَّ نظيرُها في العالَم. وقد خطَّه الخطَّاطان الشهيران نجيب الهواويني وياسر بدر الدِّين، وزُيِّنَ بعشراتِ اللوحات الفنِّيَّة التي تُطابقُ مضامينُها نصوص الكتاب، وتُبرزُ دركات العذاب في جهنَّم، والشياطين والأَبالسة فيها وهم يُعذِّبون الهَلْكى، جزاءً لهم على كُفرهم باللَّه، وعلى ما أَتَوْهُ في حياتهم الأَرضيَّة من فِسْقٍ وفُجورٍ وكَذِبٍ وسرقةٍ واعتداءٍ وجرائمَ وتكبُّرٍ وتجبُّر! وهو بالفعل نسيج وحدِه في اللغة العربيَّة؛ وقد كان مدعاةً لاثنين من عمالقة الشِّعر العربيّ هما العلاَّمة الكبير الشيخ عبد اللَّه العلايلي الذي أُطلق عليه لقَب “فَرْقَد الضَّاد”، وحليم دمُّوس الذي أُطلق عليه لقَب “بُلبُل المنابر”، لأَنْ يَنظُماهُ شِعرًا، كلٌّ بدوره، من باب التقدير الكبير له، وللدكتور داهش وفكره. ويُعدُّ كتاباهما إضافةً جليلة على الشِّعر العربيّ. ففي سُداسيَّةٍ له من الشِّعر المنثور المُقفَّى، يصفُ الدكتور داهش “الدرك المظلم الثامن” من الجحيم، بلسان القدَر وهو يُخاطبُ المُعذَّبين، قائلاً لهم: “لقد طغَيتُم في دُنياكم وبغَيْتُم/ ودجَّلتُمْ على السماء وهتَكْتُم الأَعراض/ فلا تَلُوموا السماءَ الآن لأَنَّها قابلَتْكُمْ بالإعراض/ إنَّ عذابَكُم سيَستَمرُّ ملايينَ من السِّنين/ وسَنُذيقُكُم في أَثنائها المُرَّ والصَّابَ والغِسْلِين/ لأَنَّكم شمَخْتُم بأُنوفكُم وعلى الضُّعفاءِ اعتدَيتُم.”
أَمَّا كتابُ “النعيم”، فهو مجموعةُ قطعٍ في وصف الدرجات العُلويَّة وكواكبِ الأَحياءِ النُّورانيَّة التي يتمتَّعُ فيها الأَبرارُ الأَطهار بالسعادة السرمديَّة الخالدة في ظلِّ اللَّه العليّ؛ وقد أَجاد الدكتور داهش في وصْفها وأَبدَع. وانبرى الشاعر حليم دمُّوس فنظمَه شِعرًا، من باب الإعجاب به، فأَجاد، هو الآخَرُ، وأَبدع. وقد فاض منه الشِّعرُ مُترَقْرقًا، مُجَلْبَبًا بالمعاني الفردوسيَّة، وكأَنَّه ماءٌ طَهُورٌ مُتدفِّقٌ من “سَلْسَبيل” جنَّة النعيم المُقيم وقد انعكسَت عليه أَنوارُها العُلويَّة، وفاح منه عبيرُها الإلهيُّ المُحْيي. حسبُنا من جميلِ نَظْمه هذه المقطوعةُ المِثال، المُسمَّاة “الكوكبُ العُلويُّ الثاني”، والتي جاءَ فيها: “في الكوكبِ الثاني أَرى الأَطْفالا/ أَزاهرًا تُكلِّلُ التِّلالا/ لمْ يَغرَقُوا في لُجَّةِ المَعاصي/ وفي بحارِ الإثْمِ للنَّواصي/ أَزاهرٌ جميلةُ البَراعمِ/ تَرفُّ في النَّعيمِ كالحمائمِ/ ها هُمْ يَخوضُونَ مياهَ الكَوْثَرِ/ فلا يموتُون طَوالَ الأَدهُرِ/ أَرواحُهمْ تَسْري بها الأَفراحُ/ وتَمَّحي هُنالكَ الأَتراحُ/ ومِنْ هُنا تَبتسمُ الأَزهارُ/ ومِنْ هُناكَ تَلمعُ الأَنهارُ/ هُنالكَ الأَطفالُ يَمْرَحُونا/ ملائكًا في نَجْمِهمْ قُرونا.”
وإلى ختامٍ أَقول إنَّ الاعتداءَات الفكريَّة التي مارسَتها الكاتبة فاتن فاروق عبد المنعم على الدكتور داهش، في مقالتها، تتعارضُ مع الإسلام ومبادئه وقِيَمه التي تدَّعي الغيرة عليها والدفاع عنها، وسوف تُرتِّبُ عليها، عاجلاً أَم آجلاً، مسؤوليَّةً روحيَّة، نتيجة انتهاكها لقيَم الحقِّ والخير والعدالة، ولأَنَّها مارسَتِ الكذِبَ أَمام عَيْن اللَّه بحقِّ رجُلٍ هو حبيبُ اللَّه عن حقٍّ وعدل، ولأَنَّها رَمَتْهُ بالكُفر، وبكلِّ مُوبقةٍ وإثم، ظُلمًا وعُدوانًا، مُتناسيةً الحديث الشريف القائل: “إيَّاكمْ والظُّلمَ، فإنَّ الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامة”، ومُتجاهلةً أَنَّ “اللَّه يُمهلُ ولا يُهمِل”، وأَنَّه “شديدُ العقاب”!..
* كاتب لبنانيّ مُقيم في كندا
Average Rating