ردٌّ على مقالة الكاتبة فاتن فاروق عبد المنعم “عقيدةُ الداهشيَّة.. دعوةٌ للكُفر” (٢)
ماجد مهدي*
… كيف لم يرتجف القلمُ في يد الكاتبة فاتن فاروق عبد المنعم وهي تُدوِّنُ عنوان مقالتها الذي شاءَته “تكفيريًّا” بامتياز، والذي ذيَّلَتْه، بلا استحياء، بعبارة “نقد أَدبيّ”، في إشارةٍ إلى الفنِّ الأَدبيِّ الذي ينتمي المقالُ إليه! هذا العنوان، على صِغَره، أَثار في نفسي الغضب والهُزءَ، في آن! أَمَّا الغضب، فلأَنَّني خِلْتُ نفسي، وأَنا أَتلُوه، بأَنَّني أَمام فتوى لأَحد غُلاة أَئمَّة التكفير، لا أَمام عنوانٍ فكريّ وضعَتْهُ كاتبةٌ تتويجًا لمُداخلةٍ نقديَّةٍ فكريَّة قدَّمَتْها في صالونٍ ثقافيّ يُعرِّفُ نفسه بأَنَّه “تجمُّعٌ أَدبيٌّ لكلِّ الآراء من مختلف الاتِّجاهات”! وأَمَّا الهُزء، فلأَنَّ الكاتبة ظنَّت في قرارة نفسها بأَنَّها قد أَصابت من العقيدة الداهشيَّة مَقْتلاً، بفضل ذلك العنوان، ولم يَخطُر في بالها أَنَّها، في كلِّ ما اختلَقَتْه من أَكاذيب حولها، كانت كَمَن تَنطَحُ برأسها جَبلاً لا تَهزُّه عوادي الزمن، ولا يَنحني إلاَّ أَمام جلال اللَّه وعزَّته! أَقولُ ذلك عن بيِّنةٍ تامَّة من حقيقة شخص الدكتور داهش، وسُموِّ أَدبه وفكره وخوارقه، وعظيم إنجازاته الثقافيَّة، واستبساله في الدفاع عن حرِّيَّاته، وعن تجربةٍ طويلةٍ لي معه…
ذكرَت الكاتبة اسم الدكتور داهش، أَوَّل ما ذكرَتْه في المقالة، مُرفقًا بالإشارة إلى الدِّين الذي وُلدَ فيه ونشأَ عليه، قائلةً: “سليم العشِّي ذي الأُصول المسيحيَّة”، مع أَنَّه ليس في النصّ ما يستدعي الإشارة إلى دينه. وما كان لكاتبٍ حقّ يحترمُ حرِّيَّة الرأي والمعتقد أَن يتصرَّف على هذا النحو.
كما اعتبرَت الكاتبة دعوته إلى “الأُخوَّة الإنسانيَّة وقبول الآخر” بأَنَّها “شعاراتٌ خادعة”، وكأَنَّها تريدُ أَن ينفضَّ الناسُ عن السيِّد المسيح الذي أَوصى الجميع بحبِّ بعضِهم لبَعض، في ما يُعدُّ أَسمى درجات الدعوة إلى الأُخوة الإنسانيَّة، وأَن يُديروا ظهورهم لكلمة النبيِّ محمَّد (ص) القائلة: “الإنسان أَخو الإنسان أَحبَّ أَم كَرِه”، وأَن يكفُّوا عن الاقتداءِ بكلمة المهاتما غاندي، داعية الحبِّ والتآخي والسلام العالميّ، التي صارت مَضْرِبَ المَثل في الأُخوَّة الإنسانيَّة: “لم أُفرِّقْ بين أَقرباءَ وغُرباء، بين مُواطنينَ وأَجانب، بين بِيض البَشَرة والمُلَوَّنين، بين الهنود الهندوس والهنود المُنتمين إلى مِلَلٍ أُخرى، سواءٌ أَكانوا مُسلمين أَم پارسيِّين أَم مسيحيِّين أَم يهودًا. يُمكنُني القول إنَّ قلبي لم يستطعْ أَن يقومَ بأَيَّة تفرقةٍ كهذه!”
وادَّعَت الكاتبة، أَيضًا، بأَنَّ الدكتور داهش ينفي عن القرآن تحديدًا أَنَّه وحيٌ من اللَّه، بمعنى أَنَّه يُقرُّ بخَلْق القرآن، وبأَنَّه يرفضُ الوحيَ الإلهيّ”، مع أَنَّه هو القائلُ في قطعةٍ من كتابه “محمَّد سيِّدُ الخَلق”، بعنوان “القُرآن آيةُ الأَزمان” : “والقُرآنُ، يا لَلْقُرآن!… هيهاتِ أَن يجُودَ بمِثله الزمان! القُرآنُ، وَحْيٌ يُوحى بهِ من لَدُنِ العزيزِ الرحْمن! القرآن، كتابُ اللَّه الشريف، يتلُوهُ مَنْ عَمَرَ قلبُهُ بالإيمان!”
وتُضيفُ الكاتبة قائلةً، قصدَ الفتنة، “إنَّ الداهشيَّة هي تجميعٌ للطعون التي قيلَتْ ضدَّ الإسلام”، في حين أَنَّ الدكتور داهش قد صدَّر كتابه المذكور نفسه بقوله: “الإسلامُ سفينةٌ حصينةٌ أَمينة يستقلُّها المؤمنونَ يومَ الكريهة، فتَجري بهم في مُحيطِ المحبَّة والاطمئنان، حتَّى تَبلُغَ بهم إلى شاطئ السلام والأَمان”. كما وصفَ الإسلام في الكتاب نفسه بأَنَّه “دينُ العدالة والمساواة! دينُ النَّصَفة، هديَّةُ السماوات!”
وادَّعَت الكاتبة، وما أَكثر ادِّعاءَاتها، أَنَّ الدكتور داهش يدعو لعبادة الشيطان، في حين أَنَّ اللَّه، جلَّ اسمُه، كان دائم الحضور في فكره وكتاباته، وقد كتَب في قُدسيَّته وعظمته أَجمل ما سطَّرهُ من كلماتٍ وعبارات، قائلاً: “اللَّه كلمةٌ رقيقةٌ، عذبةٌ، شفَّافةٌ، أَثيريَّةٌ، مُقدَّسة! كلمةٌ تلفظُها الشِّفاهُ برِعشةٍ وخشُوع! كلمةٌ تُردِّدُها القُلوبُ برَهْبةٍ وخُضوع! كلمةٌ لا يُجاريها (الكَوْثَرُ) في عُذوبَتِه! كلمةٌ قُدسيَّةٌ، أَزليَّةٌ، سَرمديَّةٌ، أَبديَّة!…” كما ادَّعَت، أَيضًا، بأَنَّ “الداهشيَّة تَعتبرُ “أَنَّ الجنَّة والنار حالة عقليَّة يُجسِّمُها الفكر ويصنعُها الخيال”، مع العلم بأَنَّ للدكتور داهش كتابًا ضخمًا أَسماه “جحيم الدكتور داهش”، وزيَّنه بعشرات اللوحات الفنِّيَّة الخاصَّة به، وقدَّم فيه وصْفًا لما يلقاه الخطأَة من عذاباتٍ في دركات الجحيم الرهيبة، جزاءً وفاقًا لهم على ما أَتَوْه في دُنياهم من إثمٍ وكفرٍ وكذِبٍ واعتداء. وقد خطَّه الخطَّاط الشهير نجيب الهواويني، ونظمَه شِعرًا العلاَّمة الشيخ عبد اللَّه العلايلي والشاعر العملاق حليم دمُّوس، كلُّ بدوره. وله كتابٌ آخر في “النعيم” وصفَ فيه هناءَات الأَبرار الأَطهار في جنَّات النعيم المُقيم، الفيَّاضة بالسعادة الخالدة، مكافأَةً لهم على إيمانهم باللَّه ورسالاته ورُسُله، وعلى سلوكهم سبيل الخير والفضيلة. وقد نظمَ الشاعر حليم دمُّوس بعض درجاته شِعرًا! وكلا الكتابين يقدِّمان صورةً عن العدالة الإلهيَّة المُتمثِّلة في مبدإ الثواب والعقاب، والتي كانت في صميم إيمان الدكتور داهش وعقيدته! إذنْ، فكلامُ الكاتبة حول هذا الأَمر باطلٌ، ولا أَساس له من الصحَّة.
ونسبَت الكاتبة إلى الدكتور داهش الدعوة إلى ما أَسمَتْه “وحدة الوجود ووحدة الأَديان الشيطانيَّة”، واتَّهمَتهُ بأَنَّه يدحضُ الحقيقة الإلهيَّة”، معلِّلةً ذلك بالقول: “إنَّ الدين عند اللَّه الإسلام”… “ومَن يبتغِ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه…” إلخ… والحقّ هو أَنَّ كلَّ ما عزَتْه إلى الدكتور داهش في هذا السياق، ما خلا إيمانه بوحدة الأَديان السماويَّة، هو كذِبٌ صُراح، لا وجود له في مؤلَّفات الدكتور داهش، وغايتُه تشويه سمعته. أَمَّا وحدة الأَديان السماويَّة المنزَلة، في جوهر تعاليمها، فكان يرى بأَنَّها حقيقةٌ روحيَّةٌ لا غُبار عليها، لأَنَّها مِصداقٌ لما جاءَ عنها في القرآن الكريم والكتب المقدَّسة، وعلى لسان السيِّد المسيح والنبيِّ محمَّد (ص)، ولأَنَّ روح الإله الواحد هو الذي أَوحى للأَنبياء جميعًا، على مرِّ العصور. فلماذا استشهدَت الكاتبة فقط بآياتٍ قرآنيَّة تحصرُ الدين عند اللَّه بالإسلام، ونسيَتْ أَو تناسَتْ كلام النبيِّ محمَّد (ص) القائل: “الأَنبياءُ إخوة، أُمَّهاتُهم شتَّى ودينُهم واحد”؟! ولماذا تجاهلَت الآية القرآنيَّة الكريمة القائلة: “إنَّ الذين يكفرون باللَّه ورسُله، ويريدون أَن يفرِّقوا بين اللَّه ورسُله، ويقولون نؤمنُ ببعض ونكفرُ ببعض، ويريدون أَن يتَّخذوا بين ذلك سبيلا، أُولئك همُ الكافرون حقًّا، وأَعتَدنا للكافرين عذابًا مُهينا. والذين آمنوا باللَّه ورسُله، ولم يفرِّقوا بين أَحدٍ منهم، أُولئك سوف يؤتيهم أُجورهم، وكان اللَّه غفورًا رحيما”؟! (سورة النساء: آية ١٥٠-١٥٢). ولماذا أَقفلَت عيْنَيها عن الآية القرآنيَّة الأُخرى القائلة: “نزَّل عليكَ الكتاب بالحقّ مُصدِّقًا لما بين يديه، وأَنزل التوراة والإنجيل مِن قَبلُ هُدًى للناس.”(سورة آل عمران: آية ٣). ولماذا لم تَطرحْ تعصُّبها الدينيّ جانبًا، وتُشير إلى كلمة السيِّد المسيح القائلة: “لا تظنُّوا أَنِّي أَتيتُ لأَنقُض الشريعة والأَنبياء. إنِّي لم آتِ لأَنقُض، بل لأُتمِّم”، (متَّى: ٥-١٧)، تلك الكلمة التي شرَّفني أَن أَحفظها وسواها من كلماته الجليلة الأُخرى عن ظَهر قلب، منذ مطلع شبابي، مع أَنَّني من أُصولٍ مُسلمة. فوحدةُ الأَديان، في جوهر تعاليمها، هي، إذنْ، حقيقةٌ حقَّة مُلتصقةٌ بالأَديان منذ قيامها، ولم يبتَدعْها الدكتور داهش من فكره. وهو حرٌّ في إيمانه وقناعاته.
هذه التُّهم التي ردَدْتُ عليها بالوقائع والشواهد ما هي إلاَّ غَيْضٌ من فَيْضِ ما أَلصقَتْه الكاتبة زُوْرًا وبُهْتانًا بالدكتور داهش، وقد أَرفَقَتْها بنُعُوتٍ مُشينةٍ بحقِّه، ضاربةً عرض الحائط بكلِّ القواعد الأَدبيَّة والأَخلاقيَّة المعروفة في النقد والمناقشة، وفي ذلك كلِّه تجنٍّ واضحٍ فاضحٍ منها عليه. وهذا التجنِّي يدينُها بانتهاك حرِّيَّة الرأي والتفكير، وبالتطاول على الكرامات. ولذلك، أَكتفي بالقول إنَّ تلك المقالة ليس فيها أَيُّ أَثرٍ للنقد الأَدبيّ، ولا للأَدب أَو الفكر، وهي، في الحقيقة، مقالةٌ “تكفيريَّةٌ” بامتياز، عنوانًا ونصًّا، وما كان لقلمٍ تكفيريٍّ ظلاميّ مُنغمسٍ في التعصُّب الدينيّ والمذهبيّ، ومُعادٍ للحرِّيَّات، أَن يُنتجَ أَدبًا أَو فكرًا حرًّا نيِّرًا يُسهمُ في تقدُّم الإنسانيَّة وارتقائها. والجديرُ بالذكر أَنَّ بعض الكتَّاب الآخرين الذين شاركوا في تلك المناقشات بعدها قد نعتُوا الدكتور داهش بأَلفاظٍ مُهينة لا تَليقُ بهم كأَساتذةٍ وأُدباء وروائيِّينَ ونُقَّاد، بل تحطُّ من قَدْرهم وكراماتهم وحدَهم دون سواهم. أَمَّا المُداخلات النقديَّة التي تمَّ تقديمها في تلك الندوة، والتي بُثَّتْ بالصوت والصورة عبر الإنترنت، فقد أَظهرَت جانبًا من ذلك الصالون الثقافيّ وكأَنَّه “سوقُ عُكاظٍ” في حُلَّةٍ جديدة استُبدل فيه إلقاءُ الخُطب في النقد الأَدبيِّ البنَّاء بإلقاءِ الشتائم المَعيبة، وفي ذلك انتقاصٌ من قَدْر الصالون، وإهانةٌ للشتَّامين أَنفسهم الذين تجرَّأُوا على أَديبٍ ومُفكِّرٍ فَذّ لم يعرفوه حقَّ المعرفة، ولا قرأُوا كتابًا واحدًا له، أَو كتابًا واحدًا عنه جديرًا بالقراءَة، وهمُ الذين لا يمكنُهم أَن يَبلُغوا شموخ قامته الأَدبيَّة والفكريَّة وسُموَّ روحه العظيمة! وستبقى تسجيلاتُهم تلك، بالصوت والصورة، شاهدًا عليهم أَمام التاريخ، ولطخةَ عارٍ على جبين الأَدب والفكر!
لكنْ، ومن باب الوفاءِ للحقيقة أَقول إنَّ بعض الكتَّاب الآخرين الذين شاركوا في تلك المناقشات قد حافظوا على روح النقد البنَّاء، ولم يَنزلقُوا إلى مهاوي الشَّطَط. فتحيَّةُ إكبارٍ لهم على ما قدَّموهُ من مِثالٍ في الموضوعيَّة، وآداب المناقشة، واحترام الآخَر. وتحيَّةُ إكبارٍ خاصَّة، مُرفقَة بالاعتزاز، أَرفعُها للأُستاذ حمدي عبد الرازق الذي أَدار جلسة المناقشات في تلك الندوة، والذي انبرى للتعقيب على كلام الكاتبة فاتن فاروق عبد المنعم، من غير أَن يكون له الحقُّ في الكلام، مُخطِّئًا إيَّاها، بكلِّ جرأَة، في كلِّ ما أَدلَت به في مُداخلتها، قائلاً: “إنَّ الأُستاذة فاتن فاروق عبد المنعم قرأَت العمل لتستَخلص منه موقفًا ضدَّه! قرأَتْه لتَبحثَ عن الطعن فيه! فهي قراءَةٌ مُتعسِّفة! وأَنا لا أُحبُّ لأَحدٍ أَن يَحتكرَ الحقيقة، أَو أَن يُجبرَني عليها. والذين يتحدَّثون باسم اللَّه، والذين يتَّخذون الدِّين شعارًا، ويتَّخذون الإسلام زِيًّا، لا يؤمنون بالتعدُّديَّة، إذا رأَوْا فكرًا من هذا النوع. كلُّ الآراءِ الأُخرى في نظَرهم مُخطئةٌ بالضرورة، وهي ضالَّةٌ بدون حسبان.” ولقد صدَق الكاتب كلَّ الصدق في كلمته التي افتلذَها من ضميره الحرّ، مُعيدًا بها بعض القَدْر إلى ذلك الصالون الثقافيّ بعد أَن فقده بفعل تطرُّف تلك الكاتبة المُفترية وأَمثالها، وتباهيهم بالإساءَة! ويقينًا أَنَّ مصر العظيمة، أُمَّ الحضارات، تعتزُّ بأَمثال ذلك الكاتب الشَّهم، وأَنَّ كلمته تلك ستبقى مِثالاً تَقتدى به الأَجيال، وإكليلَ غارٍ يُزيِّنُ جبين الأَدب والفكر على مرِّ الأَزمنة!
* كاتب لبنانيّ مُقيم في كندا
Average Rating