أَهلُ الفكر عندما يُصبحُون دُعاة تكفير!

0 0

ردٌّ على مقالة الكاتبة فاتن فاروق عبد المنعم “عقيدةُ الداهشيَّة دعوةٌ للكفر” (١)

ماجد مهدي*

أَن يكون الإنسانُ من أَهل الفكر والقلم الذين تُناطُ بهم رسالةُ الإصلاح في المجتمع، ويُكفِّر دينًا، أَو مذهبًا، أَو مُعتقدًا، أَو فكرًا، ويُهاجمَ أُدباء ومُفكِّرين، لمجرَّد اختلافٍ في الرأي والتوجُّه معهم، أَو لاختلافٍ في الانتماءِ الدينيّ أَو المذهبيّ، ويحشرهم مع عبَدَة الشيطان، ويُكفِّرهم أَمام الملإ، فتلك الطامَّةُ العظمى، بل أَدهى دواهي الدهر وأَنكى فجائعه! فالقلمُ في يد المُغرِق في التعصُّب، والمُزدري بحرِّيَّة الفكر والمناقشة، يستحيلُ فزَّاعةً يُلوِّحُ بها حاملُه في وجه المفكِّرين الأَحرار، وأَفعى شرٍّ بغيضة يَستنهضُ بها الغرائز والنعَرات والفتَن، وسلاحًا مُدمِّرًا يأتي على كلِّ ما تعبَت الأَجيالُ في بنائه! مَن قال إنَّ تلك هي مُهمَّةُ القلم، والقلم هو الذي علَّمَ به اللَّهُ الإنسان ما لم يَعلَم، ووضَع فيه قبسًا من نوره الكريم يضيءُ العقول والأَرواح، ويردُّ التائهين عن سبيل اللَّه إليه، بالحكمة والموعظة الحسنة! فما أَجلَّ ما ساقه الفيلسوفُ الإنكليزيّ جون ستيوارت ميل (١٨٠٦-١٨٧٣) عن حرِّيَّة الفكر والمناقشة في كتابه الشهير “الحرِّيَّة”، وما أَشدَّ حاجة الكتَّاب والمفكِّرين في عالمنا العربيّ لأَن يَقتَدوا به في قوله: “لو أَنَّ الناس قاطبةً أَجمعوا على رأيٍ واحد، وخالفَهم في ذلك فردٌ فذّ، لَما كان لهم من الحقّ في إخراسه أَكثر ممَّا له الحقّ في إخراسهم لو استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ إذ لا يَقدحُ في أَهمِّيَّة الرأي قلَّةُ المُنتصرين له وكثرةُ الزارين عليه. والمضرَّةُ الناشئة عن إخماد الرأي لا تقتصرُ على صاحبه، بل تتعدَّاهُ إلى جميع الناس، حاضرِهم وقادمِهم، راهنِهم وغابرِهم، وما هي في الحقيقة إلاَّ سلب النوع البشريّ برُمَّته، وحرمان الإنسانيَّة بأَسرها من شيءٍ فائدتُه لعائبيه ورافضيه أَوفر منها لمؤيِّديه وقابليه…”

لكنَّ الواقع الفكريّ عندنا بقيَ على خِلاف المؤَمَّل؛ فبعد انقضاءِ مئة عامٍ على صدور ذلك الكتاب في القاهرة، مُترجَمًا إلى العربيَّة بقلم الأَديب المُبدِع طه باشا السباعي، وعلى الرغم من الويلات القاصمة التي ضربَت بُلداننا في السنوات الأَخيرة، بفعل انكفاءِ الحريَّات الفكريَّة فيها، وتقدُّم التعصُّب الطائفيّ والمذهبيّ والنزعات التكفيريَّة عليها، ما زلنا نشهدُ كتَّابًا يحملُون الأَقلام في أَيديهم، وفي نفوسهم تعتملُ نزعاتٌ بغيضة، بما فيها التعصُّب الدينيّ، وتزويرُ الحقائق، والتطاولُ على كرامات بعض أَهل الأَدب والفكر، والاتِّهامُ بالكُفر! بكلِّ أَسفٍ أَقول إنَّ الكاتبة والروائيَّة فاتن فاروق عبد المنعم هي خيرُ مثالٍ عن تلك الفئة من الكُتَّاب، تَشهدُ عليها مقالةٌ لها نَشرَتْها على موقع “الأَنطولوجيا” الأَدبيّ يوم الإثنين الموافق السادس من مارس (آذار) ٢٠٢٣، تحت عنوان “عقيدةُ الداهشيَّة… دعوةٌ للكفر..” والمقالة، في الأَصل، هي نسخةٌ مُنقَّحةٌ ومَزيدة عن مُداخلةٍ نقديَّة قدَّمَتْها الكاتبة في “صالون سالمينا الثقافيّ” بالقاهرة حول كتاب “رابطة كارهي سليم العشِّي”، للروائيّ الدكتور سامح الجبَّاس. وسليم العشِّي هو رجلُ الروح والأَدب والفكر والفنّ، اللبنانيُّ الأَصل، المعروف باسم “الدكتور داهش”. وقد أُقيمت على اسمه، عام ١٩٨٤، دارٌ للنشر في قلب مدينة نيويورك تُدعى “الدار الداهشيَّة للنشر”،The Daheshist Publishing Co. ، وتُعنى بنشر مؤلَّفاته الأَدبيَّة، باللغة العربيَّة واللغات العالميَّة. كما أُقيم على اسمه، أَيضًا، عام ١٩٩٥، مُتحفٌ فنِّيٌّ عالميّ في المدينة نفسها، أُطلق عليه اسم “مُتحف داهش للفنّ”، Dahesh Museum of Art، ويضمُّ مجموعته الفنِّيَّة الخاصَّة الضخمة التي جمعَها في حياته، ويُعدُّ من أَهمِّ المراكز الثقافيَّة في نيويورك. وقد عرَّفه الكاتبُ المصريُّ الكبير، صديقي المرحوم الدكتور مرسي سعد الدين، في مقالةٍ له عنه نُشرَت في مجلَّة “نصف الدُّنيا” التابعة لمؤسَّسة الأَهرام بالقاهرة، عام ٢٠٠٥، بالقول: “الوحيد في نيويورك: مُتحف داهش.. خطُّ الدفاع الأَخير عن العرب”. كما أَلقى في مقرِّ المتحف بنيويورك محاضرةً عن الاستشراق الجديد كنتُ شخصيًّا من حضورها.

كيف لم يرتجف القلمُ في يد الكاتبة فاتن فاروق عبد المنعم وهي تُدوِّنُ عنوان مقالتها الذي شاءَتْه “تكفيريًّا” بامتياز، والذي ذيَّلَتْه، بلا استحياء، بعبارة “نقد أَدبيّ”، في إشارةٍ إلى الفنِّ الأَدبيِّ الذي ينتمي المقالُ إليه! هذا العنوان، على صِغَره، أَثار في نفسي الغضب والهُزءَ، في آن! أَمَّا الغضب، فلأَنَّني خِلْتُ نفسي، وأَنا أَتلُوه، بأَنَّني أَمام فتوى لأَحد غُلاة أَئمَّة التكفير، لا أَمام عنوانٍ فكريّ وضعَتْهُ كاتبةٌ تتويجًا لمُداخلةٍ نقديَّةٍ فكريَّة قدَّمَتْها في صالونٍ ثقافيّ يُعرِّفُ نفسه بأَنَّه “تجمُّعٌ أَدبيٌّ لكلِّ الآراء من مختلف الاتِّجاهات”! وأَمَّا الهُزء، فلأَنَّ الكاتبة ظنَّت في قرارة نفسها بأَنَّها قد أَصابت من العقيدة الداهشيَّة مَقْتلاً، بفضل ذلك العنوان، ولم يَخطُر في بالها أَنَّها، في كلِّ ما اختلَقَتْه من أَباطيل حولها، كانت كَمَن تَنطَحُ برأسها جَبلاً لا تَهزُّه عوادي الزمن، ولا يَنحني إلاَّ أَمام جلال اللَّه وعزَّته! أَقولُ ذلك عن بيِّنةٍ تامَّة من حقيقة شخص الدكتور داهش، وسُموِّ أَدبه وفكره وخوارقه، وعظيم إنجازاته الثقافيَّة، واستبساله في الدفاع عن حرِّيَّاته، وعن تجربةٍ طويلةٍ لي معه، إذْ إنَّني عايشتُه عن قُرب حتَّى أَواخر أَيَّامه، وحَظيتُ بشرف العمل في كتُبه، وبشرف الكتابة عنه في عددٍ من الصُّحف والمجلاَّت العربيَّة، وبالمحاضرة عن مبادئه في “قصر المؤتمرات” بمدينة “تولوز” الفرنسيَّة، عام ١٩٧٠، وبتمثيل “الدار الداهشيَّة للنشر” في معارض الكتب الدوليَّة، بما فيها معرض القاهرة. كما سعدتُ، خلال لقاءَاتي الكثيرة به، بمشاهدة الخوارق الجبَّارة المختلفة التي كانت تحدثُ على يديه، بإذن اللَّه تعالى، بهدف إثبات حقيقة وجود اللَّه، ووجود الروح وخلودها، ووجود العالَم الثاني، نعيمًا وجحيمًا. وقد عزَّزَتْ تلك الخوارقُ إيماني باللَّه، وبأَنبيائه، ورسالاته السماويَّة المُنزَلة كافَّةً، وبأَحكام العدالة الإلهيَّة.

لذلك، ومن باب الوفاء للدكتور داهش ومثاليَّته في الحياة، انبرَيتُ للردّ على الكاتبة فاتن فاروق عبد المُنعم التي بدَتْ فاقدةً للمصداقيَّة في كلِّ ما ساقَتْه ضدَّه من تُهمٍ باطلة في مقالتها، ومُفتقرةً إلى أَبسط قواعد النقد وأَدبيَّات التخاطب. أَمَّا المغامراتُ الدونكيشوتيَّة والغراميَّة السخيفة التي خاضها الجبَّاسُ في روايته، والفَذْلكاتُ الروائيَّة العقيمة التي اعتمدَها فيها، فهي لا تمتُّ بصِلةٍ إلى شخص الدكتور داهش، ولا إلى سيرته وأَدبه ومبادئه وأَهدافه، بل إنَّها على الطرف النقيض منه ومنها. وقد أَقحم الجبَّاس في مغامراته تلك مؤسَّسةً ثقافيَّةً في نيويورك، من دون أَن يُسمِّيها، مدَّعيًا أَنَّها اختارته شخصيًّا لكي يكتب كتابًا عن الدكتور داهش لقاءَ مبلغٍ كبير، وذلك بغية الظهور بمظهر الكاتب العظيم الذي تسعى إليه كبرياتُ دور النشر في العالم طلبًا لخدماته. لكنَّه تعمَّد إخفاء اسم تلك المؤسَّسة، قصْدَ التضليل، ومن أَجل التعمية على مُشغِّليه الحقيقيِّين الذين دفعوا له المال، بالفعل، وزوَّدوه بكلِّ ما يحتاجه، لقاءَ كتابته الكتاب، وتنفيذه ما يطلبونه منه فيه، بهدف تشويه سمعة تلك المؤسَّسة الثقافيَّة الداهشيَّة، الوحيدة في نيويورك، والإساءَة إلى الدكتور داهش نفسه، علمًا بأَنَّ تلك المؤسَّسة هي الوحيدة في العالم التي تملكُ حقَّ طبْع كتب الدكتور داهش ونَشْرها. وهي، في الحقيقة، أَكبرُ وأَعظمُ بكثيرٍ من أَن تسعى خلْف أَيِّ كاتب، كائنًا مَن كان، بمن فيهم الدكتور الجبَّاس، من أَجل استئجار قلمه، إذ إنَّ مثل هذا الأَمرَ الإدّ ليس من مبادئ الدكتور داهش أَو مبادئها، على الإطلاق، ولأَنَّ أَهراءَاتها الفكريَّة طافحةٌ بالمؤلَّفات والمخطوطات القيِّمة حول الدكتور داهش، وجميعُها لكتَّابٍ أَفذاذ مُنغمسين في الحقّ، لا يكتبون من أَجل المال، ولا من أَجل الشُّهرة، وإنَّما من أَجل الحقيقة. أَمَّا “فاطمة” التي ادَّعى الدكتور الجبَّاس في روايته بأَنَّها اتَّصلَتْ به من تلك المؤسَّسة الثقافيَّة في نيويورك، وحضرَتْ للقائه في القاهرة، وقابلَتْه بعدها في بيروت وقادَته إلى منزل الدكتور داهش، والتي بوَّأَها مقام البطولة إلى جانبه في الرواية، مُوهمًا نفسه بأَنَّها قد وقعَت في حبائله، فما هي إلاَّ أُكذوبةٌ مَقيتةٌ وضيعة مُتعمَّدة صاغها بنفسه إرضاءً لرغبة مُشغِّليه الخوَنة الأَنذال، ونسخةٌ طبق الأَصل عن “دولثينا دي طوبوزو” التي ابتدعها “دون كيشوت” من مَعين أَوهامه وتخيُّلاته المريضة لتكون سيِّدة قلبه، إرضاءً لجنون العظمة عنده! والحقّ أَنَّ كلَّ مَن في تلك المؤسَّسة الداهشيَّة لا يعبأُون بأَمثال تلك السفاسف، ولا يُعيرُون أَصحابها أَيَّ التفات!

أَمَّا الدكتور داهش الذي تقدَّمتُ شخصيًّا للدفاع عنه، فهو كما عرَفتُهُ بنفسي من خلال مجالسته، والاستماع إليه، والقراءَة في مؤلَّفاته، والاستغراق في تاريخه، ومتابعة نشاطاته وإنجازاته، وكما عرَّفتُه في كتاباتي المختلفة عنه، وكما عرَّفَهُ بعضُ أَصحاب الأَقلام الحرَّة الصادقة، المُزدرية بالكذِب، والمُنزَّهة عن التعصُّب، والتي لا تمتَهنُ التَّفَذْلُك والتَّحَذْلُق في الكتابة! ولقد فعَلتُ ذلك كلَّه بهدف الكَشْف عن تُرَّهاتِ تلك الكاتبة وأَضاليلها، وعَرْضِها بعُجَرها وبُجَرها وجَهْلها وتَعصُّبها أَمام مَنْ سعَتْ لجرِّهم إلى الفتنة، والفتنةُ نائمةٌ لَعنَ اللَّه مُوقِظَها، وبُغية إظهارِها مُفتريةً على رجُل الحقيقة، وفاشلةً في المُهمَّة الثقافيَّة التي انتُدبَت من أَجلها، وكأَنَّها لا صلة تصلُها بالنقد الأَدبيّ، ولا بالموضوعيَّة، ولا بحرِّيَّة الفكر والمُعتقد… وكأَنِّي بها طالعةٌ للتوّ من عصور الظَّلام!

فهي تُقوِّلُ الدكتور داهش ما لم يَقُلْه قطّ، وتستَقي من مؤلَّفاته ما لم يكتُبْه على الإطلاق، وتَنسبُ إلى عقيدته من الأَباطيل ما لا عهد لها به، وتُهاجمُه في أُمورٍ تدَّعي بأَنَّه يؤمنُ بها، وهي لا صلة لها به، من قريبٍ أَو بعيد، علمًا بأَنَّ تلك العقيدة هي خلاصةُ مبادئَ وأَفكارٍ فلسفيَّة كان يؤمنُ بها، ويُعلنُها على رؤوس الأَشهاد، وتجدُ سبيلها بشكلٍ عفويّ إلى كتاباته الأَدبيَّة، على اختلاف موضوعاتها والفنون التي تنتمي إليها، وبأَنَّه لم يَكتبْ بنفسه أَيَّ كتابٍ خاصٍّ عنها. فأَدبُه لا ينفصلُ قطُّ عن فلسفته، شأنُه في ذلك شأنَ الفلاسفة الإغريق قبل سُقراط، وڤولتير، ونيتشه، والأُدباء العرب القُدامى، أَمثال التوحيديّ، “أَديب الفلاسفة”، ومَسْكوَيه “فيلسوف الأُدباء”. وقد صرَّح الدكتور داهش بذلك بنفسه، في أَكثرَ من مُناسبة، أَمام سائليه عن كتاب عقيدته الفلسفيَّة، مُجيبًا إيَّاهم بالقول: “عقيدتي في كتُبي.” ولقد كان من واجب الكاتبة أَن توجِّه سهام النقد الصريح البنَّاء لمؤلِّف الكتاب بدل أَن تصبَّ جام حقدها الدفين على الدكتور داهش عبر اتِّهاماتٍ تكفيريَّةٍ باطلة مُغمَّسةٍ بحبر التعصُّب الدينيّ الأَعمى، وجَّهَتْها إليه بأُسلوبٍ تقريريّ، دون أَن تُكلِّف نفسها عناءَ تقديم دليلٍ واحدٍ على صحَّتها. وقد أَثبتَتْ، في كلِّ ما ساقَتْه عنه، بأَنَّها جاهلةٌ كلَّ الجهل بكلِّ ما له صلةٌ بحياته وأَدبه وفكره وخوارقه وأَهدافه وتاريخه، وبأَنَّها تتحاملُ عليه تحامُلاً غاشمًا، وتتَّهمهُ بالكُفر، وكأَنَّها حامية حِمى الإسلام، وحاملة لواء “يا غَيْرة الدين”، عن سُخْفٍ وبلاهةٍ تامَّين!

* كاتب لبنانيّ مُقيم في كندا

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %

Average Rating

5 Star
0%
4 Star
0%
3 Star
0%
2 Star
0%
1 Star
0%

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *